البداية بعد النهاية - 415 - ذكريات مزيفة
– منظور سيسيليا :
إرتجف جسدي بالكامل مع تشنجات لم أستطع قمعها لأن القوة بداخلي شقت طريقها للخروج، تحتي السرير الصغير إهتز على لوح الأرضية والإطار الخشبي طقطق مثل إبر الصنوبر في النار، لم أغمض عيناي وبدلاً من ذلك بقيت أحدق بعيون واسعة حول الغرفة غير المزينة، خط نظري ركز بشكل أكبر على كل مكان إرتد فيه رأسي وتحرك بدون إرادتي.
هناك إحساس غاضب باللكم داخل صدري وللحظة شديدة كنت على يقين من أن القوة تحاول شق طريقها مني، حينها سمعت أصواتًا خلف الباب الحديدي الثقيل لغرفتي وأدركت أن الإحساس لم يكن سوى دقات قلبي لأنها تبعث على الغثيان.
أردت أن أصرخ وأقول لهم أن يبتعدوا لأنه لا توجد طريقة تمكنهم من الإقتراب أكثر هذه المرة، بإمكاني رؤية الكي في الهواء يقطع في كل إتجاه لكن الباب إنفتح ولم أستطع دفع الهواء عبر حلقي الضيق.
عند إطار الباب بإمكاني فقط تحديد شكل مديرة المدرسة ويلبيك وإثنين آخرين، راندال الرجل الضخم الذي ساعد في التنظيف بعدنا نحن الأطفال إنحنى إلى الأمام بيد واحدة لأعلى لحماية عينيه من الطاقة التي تدور داخل غرفتي، تردد وقبل أن يتقدم للأمام بقليل إندفعت شخصية أصغر بكثير إلى الغرفة التي أمامه.
‘نيكو’ فكرت وقلبي ينفجر بأجزاء متساوية من الخوف والإمتنان.
تجنب نيكو إنفجار الكي الذي أصاب راندال في صدره ورفع الرجل الضخم ثم ألقاه مرة أخرى نحو الحائط.
“لا يمكنك!” قلت بينما الكلمات بدأت أخيرًا تخرج بين أسناني المشدودة “سوف تتأذى”.
لكن شيء ما خاطئ… سواء ذلك بسبب عاصفة الكي التي تدمر الغرفة أو إحساسي الضعيف للإدراك فقد بدأ نيكو يصبح غير واضح، بالأحرى بقي نيكو مشرقًا وصافيًا ونابضًا بالحياة كما لو أنه أوضح شيء في الغرفة بينما أحاطت به هالة ضبابية، حاولت التركيز لكن التحديق في الهالة جعل رأسي يؤلمني بشدة.
زحف نيكو نحوي وتواصل معي لكني لم أستطع النظر إليه مباشرة لذا إستدرت بعيدا رغم أني ما زلت أستطيع رؤيته من زاوية عيني، تم فصل صورة نيكو شديدة الوضوح والهالة الضبابية إلى صورتين فرديتين.
إحداهما لنيكو نظيفة وواضحة بينما وجهه في كآبة بطولية وهو يعبر من خلال هجوم الكي الذي أطلقت العنان لي.
الآخرى صورة باهتة لصبي في مثل سننا والعرق يتساقط على وجه الملتوي من اليأس حيث تضخم الكي داخله.
تحطم السرير وإرتفع الريش والقماش وقطع الإطار الخشبي في الهواء يدورون حولي كأنهم محاصرون في إعصار مصغر، شعرت بنفسي مرفوعة وكذلك الصبيان حيث سحب نيكو إلى الجانب والصبي الباهت إلى الجانب الآخر، كل بضع ثوانٍ يتداخلون ويصبحون شخصية واحدة ثم ينقسمون مرة أخرى ويعيدون الأمر مرارا وتكرارا.
تفككت الغرفة ثم دار الأيتام مع نمو عاصفة الكي خاصتي وتقشرت طبقة تلو الأخرى من العالم تاركتا إياه مكشوفا.
إنقسم نيكو والصبي غير الواضح فجأة إلى عشرات النسخ من بعضهما وكل منها مختلف قليلاً مثل الضوء من خلال المشكال، بدأوا يتساقطون مثل رقاقات الثلج وينجرفون لأسفل إلى العديد من المشاهد المتداخلة حيث الصور من حياتي – الذكريات – كل واحدة ظهرت جنبًا إلى جنب، نيكو – ما زال واضح ومرئي – يقوم بنفس حركات الشكل غير الواضح الذي يقف بجانبه مثل ظله.
(المشكال : لعبة تتكون من أنبوب يحتوي على مرايا وقطع من الزجاج الملون أو الورق تنتج إنعكاساتها أنماطًا متغيرة يمكن رؤيتها من خلال فتحة العين عند تدوير الأنبوب)
فتحت عيني وإنحنيت لأخرج الضغط الذي تراكم بداخلي، قامت خادمة بدفع دلو تحت وجهي في الوقت المناسب لإمساك محتويات معدتي وأخرى ربتت على شعري لتهدئتي بصوت ناعم ومريح.
“أخبر السيادة العليا أنها مستيقظة” قال صوت بلا جسد بهدوء من مكان قريب.
الآن بعد أن إنتهى الحلم يمكن أن يشعر عقلي المستيقظ بالفجوات بين الذكريات المزدوجة – الأماكن في ذهني حيث إستبدل أغرونا ذكرياتي الأصلية بذكريات مزيفة، حتى الإعتراف بهم يشبه إدخال إصبع في جرح مفتوح مما أدى إلى موجة أخرى من القيء جعلت ذهني فارغًا.
‘غراي’ أدركت أن سياق الذكريات ينزف من خلال الضباب الذي يحجب عين عقلي… الكثير من غراي في حياتي… إمتلأت العديد من الثقوب الفارغة أو رُصفت بنيكو…
شعرت بموجة من الذعر والغثيان الذي تسبب في موجة أخرى من القيء، حاولت البحث في ذكرياتي عن أجزاء سابقة من علاقتنا التي لن أتصالح معها تمامًا عندما أراها من خلال هذا الجسد… خائفة مما سأجده… لكنها سليمة… ذلك حقيقي… حبنا حقيقي.
عندما خف الغثيان من جسدي المتعب والمتألم إنحنيت إلى الوراء وأغمضت عيني، لم ألحظ سوى الخادمة ذات الشعر الداكن التي مدت يدها بقطعة قماش لتنظيف شفتي وذقني.
“ها أنت ذا عزيزتي فقط إسترخي” قالت بلمحة من لكنة فيكوريان.
لم يكن لدي أي إحساس بمرور الوقت وفقدت كل التماسك مع إنجراف أفكاري من ذاكرة إلى ذاكرة، يمكن أن أشعر بخطوط الصدع بين الذكريات الحقيقية والمزيفة بنفس الطريقة التي يشعر بها لسان المرء بفجوة السن المفقودة، من دون أي توجيه مباشر بدا أن ذهني يندفع من ذكرى إلى أخرى مستكشفاً الأعماق الداخلية لنفسي ورسم خريطة لإدراك التغيير في وعيي.
سواء بعد دقيقة أو ساعة ظهر وجود خانق بجانبي دفع كل شيء بعيدًا لإفساح المجال لنفسه.
فتحت عيناي حيث جلس أغرونا بجانب سريري وحدق في وجهي بعبوس طفيف ينقل قلقه وإهتمامه.
“كيف تشعرين؟” سأل وعيناه القرمزيتين مركزتين على عيني “جاء أفضل الأطباء والمعالجين لديّ لرؤيتك وهم يقولون إنك لست مصابة بأذى جسدي”.
“أنا بخير” أجبت بينما أشعر بحكة في حلقي.
عندما مالت القرون التي فوق رأسه قليلاً أكملت “بصراحة لم يؤذيني”.
ظل أغرونا الذي يداه مثبتتان خلف ظهره بلا حراك تمامًا وسأل “سيسيليا هل يمكنك أن تخبريني بما كنت تفعلينه في تلك الزنزانة؟”.
“سامحني أغرونا أعلم أنه لم يكن من المفترض أن أكون هناك لكن…” جعدت حواجبي بعبوس وإحباط موجهة تركيزي على قدمي.
توقفت حينما شعرت أن مراقبي أغرونا السحريين يتجولون في ذهني مثل الأصابع التي تعجن الأنسجة الرخوة في وعيي باحثين في أفكاري عن الحقيقة والكذب لكن…
“تابعي” قال بينما يزال ساكنًا.
“جاءني درانييف مرافق نيكو قائلا إن الأخير يتصرف بغرابة وأنه مهووس بفكرة أن السيادي كيروس لديه معلومات نحتاجها وهو أمر يخشى أن يسألك إياه، قال درانييف إن نيكو تسلل إلى الأسفل لإستجواب السيادي لذا تبعته”.
بينما أتحدث ظل نصف ذهني مركزا على سحر التحقيق، تتبعت مسار أفكاري وإهتممت بالكلمات عندما تشكلت في رأسي حتى قبل أن تصل إلى لساني، شعرت بهذا الإحساس مئات المرات من قبل لكن شيء ما مختلف عن ذلك الوقت.
“كان يجب أن آتي إليك وأخبرك على الفور” إعترفت وأغمضت عيني “كيروس حاول قتلي”.
لمست أصابع قوية ذقني وأدارت رأسي قليلاً، عندما فتحت عيني كنت أحدق في وجه أغرونا.
“نعم وجب عليك ذلك من الحماقة أن نيكو لم يطرح أسئلته علي مباشرة وكنت حمقاء لأنك لحقته لإنقاذه، هذه نقطة ضعف يمكن إستغلالها بسهولة من قبل أولئك الذين في الخارج لإيذائك حتى هنا في تيغريان كالوم، إذا كنت ترغبين حقًا في الفوز بحربي والعودة إلى حياتك الأصلية فأنت بحاجة إلى الحفاظ على سلامته” تجعد أنف أغرونا قليلاً في نفور “خاصة من نفسه وهو ما قد يعني تقييد حريته”.
“نعم ربما” قلت بلا إلتزام.
لطالما وجدت صعوبة في مناقشة هذه الأشياء مع أغرونا فقد جعل الأمر يبدو بسيطًا للغاية بينما في الواقع الأمر مختلف، إن نيكو حساس وخجول ويميل إلى الأمور البطولية كما أنني أعلم أنه شعر بالتهميش بشكل متزايد بسبب قوتي، هذا أمر وجد صعوبة بالغة في التعامل معه ليس لأنه أراد أن يكون الأقوى أو الأكثر أهمية بل لأنه أراد أن يحافظ على سلامتي.
“أين هو؟” سألت وأدركت فجأة أن نيكو لم يكن موجودًا عندما إستيقظت وما قد يعنيه هذا “نيكو؟”.
أعطاني أغرونا إبتسامة متفهمة ومد يده ليمشط شعري بأصابعه “لقد تم حجزه مؤقتًا حتى يمكنني الحصول على فهم أكثر إكتمالا للأحداث مع كيروس، سأطلق سراحه ليأتي لرؤيتك الأن بعد أن علمت أنك لم تصابي بأذى لذا سأتركك لترتاحي” بدأ في الإبتعاد لكنه توقف ثم نظر إلي مرة أخرى “على الرغم من وجود سؤال آخر يجب أن أطرحه عليك” ظلت نبرته خفيفة وفضولية وغير مبالية تقريبًا “هل إستوعبت أيًا من مانا كيروس عندما حاول قتلك؟”.
مراقبيه السحريين لا يزالون في ذهني لكنني أدركت أخيرًا ما هو المختلف عن ذي قبل: إنه متحفظ ويحد من إستخدامه للمانا.
هل هذا لطف منه أم شيء آخر؟… لقد أخبرني من قبل عن مدى خطورة نوع سحره العقلي إذا لم يتم إستخدامه بعناية وبواسطة شخص يتمتع بالتحكم والبصيرة المناسبين.
لولا هذا الإدراك لا أعتقد أنني سأمتلك الشجاعة لفعل ما فعلته.
“لا أغرونا فقد حرمته، على الرغم من أن الأمر كاد يكلفني حياتي إلا أنني لم آخذ أي مانا من صاحب السيادة”.
الخط الرفيع الذي يتشكل بين حاجبيه هو العلامة الخارجية الوحيدة لمشاعره، أومأ برأسه ما جعلني أعتقد أنه ينوي المغادرة لكنه عوضًا عن ذلك عاد إلي وأمسك ذقني بيد واحدة.
“يجب أن تركزي على إستيعاب مانا طائر العنقاء العالقة في جسمك فنواتك تقترب من الإندماج يمكنني الشعور بذلك” كشف عن أسنانه بإبتسامة جائعة “ستكونين الأولى من الجنس الأدنى التي تفعل ذلك”.
بقيت صامتة حيث توقف مراقبوه السحريين في دماغي ولم أستطع قراءة نوايا أغرونا.
“الإندماج هو شذوذ غريب لجنسك الأدنى في علم الأحياء” قال بينما ينظر إلى الأمام وعبر الجدار إلى مكان بعيد لا يراه أحد غيره “بالنسبة للأزوراس مثل هذا الشيء لا يمكن تصوره فمع إزدياد قوتنا تنمو نواتنا أيضًا، كلما طال عمر الأزوراس زاد نموهم ليس في الحجم فقط بل في الفاعلية والقوة ومع ذلك من الغريب أننا ما زلنا مقيدين”.
“بأي طريقة؟” سألت مترددة.
لم يكن أغرونا في العادة عرضة لمحادثة بسيطة وشعرت باليقين من وجود هدف أعمق وراء كلماته.
“أعتقد أن الإندماج هو المفتاح لإظهار مستوى جديد من الفهم السحري وقد بحثت فيه بين أتباعي لعدة عقود لكن ثبت أنه بعيد المنال تمامًا، ومع ذلك فإن دورك كإرث يضعك على أعتاب جزء بسيط فقط من الوقت الذي إستثمرته، إنه أمر جدير بالملاحظة للغاية وبما أنك تتسألين عن سبب تقييد الأزوراس سأخبرك…” إشتد ضغط يده على ذقني “لدينا القوة لكننا لا نتطور وأنتم الجنس الأدنى تتكاثرون مثل الحشرات وكل جيل يتغير ويبدل قشرة أسلافه ليصبح شيئًا جديدًا… في التغيير هناك فرصة وفي الفرصة قوة”.
“مثل… الحشرات؟” سألت متسلية تقريبًا بالمقارنة غير الممتعة.
لوح أغرونا بيده رافضًا “بمجرد وصولك إلى مرحلة الإندماج ستتمكنين من الوصول إلى قوتك بالكامل بصفتك الإرث، حتى ذلك الحين لا تدعي الإنتكاسات البسيطة تعيق تقدمك ولتدعي هزيمة الأمس تصبح الدرس الذي يُعلمك الإنتصار غدا”.
قام بتصويب وتنعيم النسيج الأرجواني الغني لقميصه “الكائنات مثلنا نحن الإثنين لا تستطيع أن تضيع حتى أصغر الدروس، سيسيل يجب أن تستوعبي كل شيء وكل درس ثم تحولي ما تعلمته لسلاح هل تفهمين؟”.
قمت بعض جانب خدي غير متأكدة مما إذا فهمت حقًا لكن بعد لحظة أومأت برأسي.
“إستريحي إذًا وفكري في كلامي” قال ومضى بعيدًا.
عندها فقط أدركت أنني وحدي وأن جميع المرافقين والمعالجين قد تركوني.
عدت إلى السرير وحدقت في سقف غرفة نومي الذي لا يوصف مجبرةً كل نفس يدخل ويخرج أن يكون عميقًا ومتسقًا، على الرغم من كل ما قاله أغرونا عن الإستيعاب والإمتصاص والإندماج وجدت أفكاري تنجرف بعيدًا عن نصيحته – التي لم يتم الإلتفات إليها – نحو نيكو.
كنت أعرف دائمًا ما يمكن أن يفعله أغرونا فعندما هدأ مشاعري أو ساعدني في دفن ذكرياتها (تيسيا) عرفت ما كنا نفعله، لقد حد حتى من وصولي إلى ذكريات حياتي السابقة بمعرفتي وإنتظر حتى أصبح قوية بما يكفي قبل الكشف عن أشياء معينة لي.
كل هذا لحمايتي وفي كثير من الأحيان بإصراري أو هكذا إعتقدت؟ لماذا شعر نيكو وأغرونا أنه من الضروري تغيير بعض هذه الذكريات بتغيير نيكو بدلاً من غراي؟ لم أستطع إلا تحريك رأسي… الكثير من علاقتي مع نيكو – جميع الأجزاء الجيدة – حقيقية لكنهم بنوها وحاولوا جعلها أكثر بطولية.
قاما بمحو غراي من حياتي فقط لمساعدتي على كرهه؟…
ذلك غير ضروري فقد كرهته نيابة عن نيكو – بإستثناء أنه أثناء فحصي لمشاعري في صدري علي أن أعترف لم تكن الكراهية ما أشعر بها نحوه، تشبثت بشدة بالعزيمة التي أشعر بها لقتله من أجل تحرير نيكو من غضبه… هذا على الأقل لا يزال صحيحًا فأنا لست بحاجة لأن أكرهه لأدمره.
عندما فكرت في هذا والعديد من الأشياء الأخرى إزداد ثقل عيني وإنجرفت إلى النوم.
شعرت كما لو أنني أغلقت عيني للحظة فقط حينما أيقظتني طرقة صغيرة على الباب مرة أخرى.
“سيسيليا؟”.
“أدخل” إنتشرت إبتسامة ناعسة على وجهي.
دخل نيكو الغرفة ثم أغلق الباب خلفه، إنتقل للجلوس أسفل السرير بينما ينظر إلى كل شيء وكل مكان بإستثناء وجهي، جلس بثبات مسندًا نفسه على إحدى ذراعيه وحرص على أن لا يلمسني، إستمر الصمت بيننا حتى صار محرجا.
“هل كانوا قساة معك؟” سألت عندما لم أستطيع تحمل الأمر بعد الآن “لو كانوا كذلك سأكون…”.
“لا” أجاب متأخرا وبصوت رقيق “هل… كيف حالك؟”.
شاهدت جانب وجهه الذي يحدق في حِجره، صار شاحبًا – حسنًا شاحبًا أكثر من المعتاد – وتعبيره منعزل، تململت أصابعه بعصبية في جانب ساقه ومن الطريقة التي بدا بها جسده ملتفًا على نفسه هذا يعني أنه متوتر أيضًا… من الواضح أن هناك خطأ ما.
“أنا بخير بصراحة ما عدا حسنا…” إبتلعت لعابي بشدة “لقد كذبت عليه نيكو… جعلتني أفعل ذلك… أنت تخفي عنه الأمر لكني لا أفهم لماذا؟ من فضلك أخبرني لماذا فعلنا هذا؟”.
“أنا آسف سيسيليا…” نظر نيكو إليّ ولكن فقط في اللحظة الأشد سكت.
إستمر الصمت لفترة طويلة لدرجة أنني لم أكن أعتقد أنه سيجيبني لكنه بدأ بعد ذلك في التحدث مرة أخرى.
“أنا سعيد حقًا أنك بخير لم أكن أعتقد – كان يجب أن أتخيل أن كيروس سيفعل شيئًا كهذا… لم أكن أريدك أن تتأذي فقد فكرت… حسنًا يمكنه… حتى أنني لا أعرف حقًا… أنه إذا كنت… أم…” توقف مجددا ونظف حلقه ثم نظر إلي.
نهضت وسحبت ساقي من تحتي ثم جلست القرفصاء وإنحنيت نحوه “أنت محظوظ أن درانييف رأى أنه من المناسب أن يأتي ويخبرني إذا لم يكن لديك – فستكون…” عندما ذكرت درانييف إشتدت قبضة نيكو على نسيج بطانيتي “لا داعي لإلقاء اللوم عليه نيكو سيفر أنت على قيد الحياة بسببه”.
“لا أنا على قيد الحياة بسببك” رد بأسنانه المشدودة “درانييف خائن ليس لديك أي فكرة عما فعله”.
“هل هو أسوأ مما فعلتَه؟ من الذي فعلتُه؟” سألت بقلق ثم شعرت بالأسف على الفور للسماح لنفسي بالإحباط لأن نيكو إنكمش على نفسه “دعنا فقط… لا نتقاتل حسنًا؟ أنا آسفة”.
“أعلم… أنا أيضاً” هز رأسه بسرعة ونظر لعيني لفترة طويلة قبل أن يتكلم مرة أخرى “هل أنت متأكدة أنك بخير؟ هل هناك شيء… مختلف؟ تعرفين مع مانا البازيليسك” أضاف بسرعة.
بصرف النظر عن الشعور بنفسي أفكك ذكرى واحدة في كل مرة؟ أردت أن أقول ذلك لكني تراجعت، لم يكن لدي أي طريقة لتأكيد مدى معرفة نيكو بما فعله أغرونا بالضبط وأنواع التغييرات التي قام بها كما أنني لم أستطع أن أسأله.
بعد ذلك – مع الإعتراف غير المريح بغبائي – عانيت من الإدراك المخيف بأن عقل نيكو ربما تم التلاعب به تمامًا مثل عقلي، بدون أي وسيلة لإختراق سحر أغرونا سيظل محاصرًا في تلك الذكريات الزائفة، فجأة بدا ترددي في الحديث عن ذلك وكأنه بصيرة حيث إن لفت الإنتباه إلى الذكريات المزدوجة دون إنشاء نوع من الفهم أولاً قد يثير نوع من رد الفعل عند نيكو، يمكنه الهيجان في حالة من الغضب أو الإندفاع مباشرة إلى أغرونا كنوع من الإستجابة المبرمجة مسبقًا أو يصاب بإنهيار عقلي كامل.
هل إستبدل أغرونا غراي في عقلك أيضًا ليجعلكما أعداء؟ أم أنه لم يأخذ سوى الكراهية التي شعرت بها بالفعل وقام بتغذيتها؟ أو تخلص من الأوقات الجيدة وترك السيئة فقط؟…. أغرونا مثل الجراح بمشرط حريص في خدشه وقطعه لكن لم يكن لدي شك في أنه يمكن أن يمارس سلطته بالفأس إذا كان ذلك يناسبه.
“سيسيليا؟” سأل نيكو.
رمشت عدة مرات وأدركت أنني إنجذبت لأعمق أفكاري “كنت فقط… أتفقد نفسي على ما أعتقد لكن لا… لا أشعر بأي تغييرات كبيرة بداخلي ربما سيكون من السهل التحكم في الدرع حول سيز كلار، أعني بالتأكيد إذا كانت مانا طائر العنقاء ستساعد إذن يجب أن تكون مانا البازيليسك أفضل أليس كذلك؟”.
بدا أن العديد من المشاعر تومض على وجه نيكو مرة واحدة قبل أن يسيطر عليها “نعم بالطبع خطوط فضية أليس كذلك؟” حاول أن يبتسم لكنه لم يستطع “لماذا لم تخبري أغرونا؟” سألني فجأة فأصطادني على حين غرة.
“أنا – لست متأكدة…” تلعثمت متكئة على ظهري وتركت رأسي يرتاح على الحائط.
إستقر نيكو مرة أخرى وجلس بشكل كامل على السرير ليواجهني مباشرة “أنت لا تعتقدين أنه يعرف؟ يمكنه الشعور بالأكاذيب… قراءة العقول عمليًا على ما أعتقد…”.
هززت رأسي للتأكيد على ملاحظاتي السابقة “تراجع لسبب ما أعتقد أنه خائف من إيذائي”.
سخر نيكو لكنني سرعان ما مدت يدي وأمسكت بمعصمه “لا إستمع أعلم أنك عانيت على يديه نيكو وأنا آسفة جدًا لذلك لكنه يهتم بأمرنا وبهذا العالم وعالمه الخاص كذلك، هناك شغف ولطف ووحدة متجذرة بعمق في داخله لا يزال يختمها لكنني أعلم أنها موجودة مثلما أعلم أنه يمكنه فعل ما قاله عن منحنا الحياة معًا… حياة حقيقية في أجسادنا وعالمنا الخاص”.
على الرغم من كل شيء أعرف أن هذه هي الحقيقة، لدى أغرونا عقل غير إنساني وقد فعل أشياء يعتبرها الآخرون غير أخلاقية لكن لم يكن من العدل الحكم عليه بناءً على أخلاق الكائنات الدنيا، عقلي خاص بي ولم يتغير بسبب أي سحر دخيل كما لم يكن هناك أي تأثير خارجي يزيد ولائي أو إهتمامي ولم تتغير مشاعري إتجاه أغرونا وهذا العالم.
تمنيت ألا يظن نيكو وأغرونا أنه من الضروري تعديل ذكرياتي لإخفاء تلك الأشياء عني رغم أنه لم يتغير أي شيء بسبب هذه الذكريات الزائفة، ربما مشاعري إتجاه غراي أكثر تعقيدًا مما كنت أدرك فشبح وجوده في ذكرياتي المتغيرة أسهل وأبسط في التعامل معه، يمكنني أن أفهم لم ذلك أفضل لنا جميعًا حتى أنا لكن غراي لم يكن من أولوياتي.
فتحت فمي لمواصلة الكلام لكنني إختنقت بالكلمات، ظهرت ذاكرة جديدة لكنني جاهدت لفهمها حيث تحدث صوتان كصوت واحد وشخصان يقومان بنفس الدور، أحدهما واضح والآخر هالة غير واضحة تمامًا كما في حلمي تلك آخر ذكرى فتحها أغرونا لي، بينما كنت أراها – الآن أشاهد كل من الذاكرة المزيفة والحقيقية معًا واحدة فوق الأخرى – توسعت عيناي ببطء وصارت أنفاسي ضحلة وضعيفة.
“سيسيليا؟ سيسيل! ما المشكلة؟”.
يداه على كتفي… حركني بلطف… نفس دافئ على وجهي…
“لا شيء” تلعثمت وأنا أكافح من أجل جمع نفسي غير قادرة على التركيز على الحاضر وعلى كلتا الذاكرتين في ذهني في وقت واحد “كل شيء… أمسكني على حين غرة على ما أعتقد”.
قفز نيكو من السرير ومرر يده عبر شعره الأسود بعصبية “بالطبع لم أقصد… سأرحل أنت بحاجة إلى الراحة”.
بينما كنت أعاني حتى لإبقاء عيناي مفتوحتين وخاليتين من الدموع رأيت نيكو يبحث في وجهي للمرة الأخيرة… حتى بدون وداع أدار كعبه وخرج من الغرفة.
إتكأت على جانبي وإنكمشت مثل الكرة ثم ضغطت على عيني بإحكام لحجب بصري مما سمح للذاكرة المنقسمة بمواصلة التقدم خلف جفني.
تحت النسخة الخاطئة التي صاغها أغرونا إستمعت إلى نفسي أقول كل تلك الأشياء المرة الحقيرة لغراي… سخرت منه وأهنته… كل الأشياء التي إعتقدت أنه فعلها بي… في النهاية بعد أن إخترق سيفه جسدي كان هناك المزيد… إختفت الذكرى الزائفة مما سمح لما وراءها بالظهور.
عندما إخترق نصله صدري سال دمي على يديه وذراعيه، ضغط وزني الكامل عليه ومقبض سيفه بيننا بينما لففت ذراعي حوله مثل العناق تقريبًا.
“أنا آسفة غراي هذه… الطريقة الوحيدة” قلت والدم يتدفق من رئتي ويلطخ شفتي.
ترك السيف بينما يتدلى عليه جسدي “ماذا؟ لماذا؟”.
“ما دمت… أعيش… سيظل نيكو… مسجونًا – وسيُستخدم ضدي”.
سعلت مرة أخرى وسقطت فوقه ما دفع نصله إلى عمق أكبر في داخلي، تركت شهقة من الألم لكنني بالكاد شعرت بها فمعظم جسدي بارد بالفعل.
“لا… لا هذا لا يمكن أن يكون…” سخر غراي.
حملني بين ذراعيه مرتجفًا حتى تلاشت الذكرى.
–+–
– ترجمة : Ozy.